تمكين المرأة

لماذا المرأة؟ المرأة والتنمية
يستدعي إدماج موضوع المرأة في التنمية الكثير من الأفكار والرؤى. ويقودنا التأمل إلى أن مفهوم المرأة لا يرتبط فقط بالمستقبل بل أيضًا بالحاضر والماضي. كيف لا وقد التقت الرسالات السماوية مع الشرائع مع الطبيعة، واتفق القادة كما الحكماء على أن المرأة هي بيت القصيد. واليوم، وبعد عقود مديدة من الإخفاقات في تجارب التنمية، عاد الخبراء وعلماء الاجتماع والاقتصاد إلى الالتقاء على أن إغفال المرأة في سياساتهم وبرامجهم هو السبب الرئيس في إخفاقاتهم، وأجمعوا على أن النجاح في الرهان يقتضي أن تعود المرأة إلى حيث يجب أن تكون: فمكانتها الصدارة.

لقد مضت عقود طويلة على طرح البرامج التي تتجاهل أو هي تجاهلت الدور المحوري للمرأة. في حين أن المرأة هي الأقدر والأكثر مهارة على التقاط التفاصيل الدفينة للمجتمع وبالتالي على إحداث التغيير المطلوب. وعليه، يكون كسب التنمية عبر إعادة تعريف أدوار النساء والرجال، وعبر تبني أدوار أكثر عدالة في علاقات العمل والأذهان والتشريعات، وفي أسلوب الحياة عموماً. علماً بأنها –أي المرأة- أثبتت مقدرة عالية على تبوؤ مواقع المسؤولية واتخاذ القرار، وعلى إطلاق المشاريع الناجحة وإدارتها.
لا شكّ أن الانتقال نحو الغد الأفضل مهمّة صعبة ومركبة وطويلة، إلاّ أنها ممكنة وضرورية. والتغيير المنشود ليس مسرحه القيادات والتشريعات فقط، بل أيضًا – وربما الأهم- ما يحدث في أوساط العامة: على مستوى العائلة والحي والشارع والمدرسة والوسيلة الإعلامية. وفي كل دائرة من هذه الدوائر تلعب المرأة دورًا محوريًا، وإلاّ فإننا نعيد إنتاج الأوضاع القائمة بكل ما فيها من وهن وقصور. ولا نخاله خافيًا على أي حصيف أن موضوع المرأة كان وما يزال موضع “الوجع” الذي تئن بسببه المجتمعات قاطبة، الغنيّة والفقيرة، البدائية والمتمدّنة. وميزة هذا الوجع انّه يتسلّل إلى كل مفاصل ومفردات المجتمع بدءًا بالطفل مرورًا بالرجل وصولًا إلى المرأة ذاتها، والتي تنال منه حصّة الأسد. في حين أن نصيبها من مغانم الحياة ومواردها تبقى ضئيلة.

في الخصائص الذاتية للمرأة، تكفي الأمومة وما يرتبط بها من قيم العطاء والتضحية. إلى ذلك، هناك، ضعف النزعة إلى التسلّط (أكثر قابلية من الرجل لتمثّل المبادئ الديمقراطية)، ميل معتدل إلى التملك (مقارنةً بالرجل)، وانتفاء المصلحة والغرضيّة في العديد من اهتمامات المرأة وأنشطتها. إضافة إلى أن العديد من النساء اللواتي لا يعملن لديهن أوقات فراغ ويسهل استقطابهن في العمل الأهلي وفي مجالات التطوع؛

المرأة في مؤسسات الإمام الصدر
منذ تأسيسها، تميزّت الجمعية بسجلّها الواضح في التصدي لقضايا النساء ولاحتياجاتهن التربوية والصحية والمهنيّة. فاكتسبت مكانة مرموقة في أذهان وذاكرة المجتمع النسائي خصوصا الفقيرات ومحدودات الموارد، وكان ذلك بفضل مساهماتها القيّمة في المساعدة الاجتماعية وبرامج محو الأمية ورعاية اليتيمات والتصدي لغير ذلك من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه المرأة الجنوبية في الظروف العصيبة. وإضافة إلى إسهاماتها المحليّة، تنخرط الجمعية في شبكة روابط وعلاقات وطنية وعالمية خصوصاً مع المنظمات المهتمّة بقضايا المرأة. لهذا نراها تساهم في المؤتمرات والمنتديات المحلية والإقليمية. كما وساهمت في كافة النشاطات والتحركات ذات العلاقة بمناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة. والخطاب الرسمي للجمعية يدعم بوضوح قضايا العدالة الجندرية ومساهمة المرأة في الحياة العامّة.

يكاد تمكين المرأة يكون جوهر وجود جمعية مؤسسات الإمام الصدر وغايتها، وذلك عبر:
– تمكين تربوي ونفسي واجتماعي عبر رعاية اليتيمات وتأهيلهن.
– تمكين صحي ونفسي واجتماعي عبر برنامج رعاية الأم والطفل وجلسات الحوار والتوعية وخدمات المراكز الصحية والاجتماعية.
– تمكين مهني وتقني في مدرسة التمريض وبرامج التدريب المهني المعجل.
– تمكين حقوقي وسياسي لإحداث التغيير الاجتماعي العميق عبر إعادة النظر في عدالة الأدوار المناطة بكل من المرأة والرجل، وعبر حوار الطاقات ومكافحة كافة أشكال التمييز. 
– توفير نموذج ممأسس وقابل للاقتداء به لناحية الحضور الفاعل للمرأة في عمليات اتخاذ القرار والإدارة، وهذا ما يعكسه الهيكل المؤسسي للجمعية.

لقد قامت مؤسسات الإمام الصدر أساسًا لتمكين المرأة خدمةً للمجتمع (الإمام الصدر)، وهي تنطلق بالفتاة منذ الطفولة ومعها ولأجلها تركيزًا على مرحلة الشباب وصولاً إلى بقية مراحل العمر. وعليه تتمحور تجربتنا مع المرأة الشابة، أي مع الشابات. علمًا بأن التحليل المتكامل لتجربة الإنسان يؤدي بنا إلى صعوبة الفصل على أساس النوع أو العمر أو غيرها من التصنيفات، إذ هناك التأثر المتبادل بين المرأة والرجل، وهناك تأثيرهما معًا أو كلاً على حدة على الطفل والشاب، وما إلى هنالك من تفاعلات. 
يمكن تقسيم عمر الإنسان إلى ثلاث مراحل أساسية. الأولى مرحلة التنشئة والإعداد والتي تستهلك أكثر من 25 سنة مع تعقد نظم التعليم والتخصص والتدريب. الثانية مرحلة النضج والإنتاج والتي تتوقف غالبًا عند عمر الستين خصوصًا في بلدان العالم النامي حيث ندرة فرص العمل والأعداد الغفيرة من الشبان. والثالثة مرحلة التقاعد والشيخوخة والتي تستهلك الثلث الأخير من العمر. بتعبير آخر اقتصر العمر الإنتاجي للإنسان على ثلث عمره بينما الثلثان الآخران يكون فيهما عالة على الفئة المنتجة. عليه، تبرز الإشكالية في كيفية تخصيص الموارد المتاحة بطريقة تضمن حياةً أفضل لجميع الأجيال (ضمن رؤية إستراتيجية). أي ابتكار صيغة توازن بين الادخار والإنفاق على الاستثمار في طاقات محددة (الطفل، المرأة، المسنون، الشباب، الخ).

الجنوب والمرأة والشباب
إن التحليل الأمين لجذور الوضع المتردي الذي تعانيه المرأة في الجنوب غير ممكن بمعزل عن الإطار الأوسع للمرأة في لبنان كما في العالم العربي. وبقليل من المراقبة، يتبيّن معنا الموقع التبعي للمرأة اللبنانية عمومًا وفي الجنوب تحديدًا. كما ونستكشف الحاجة الملحة إلى السعي لتمكينها بهدف أن تكتسب ثقتها بنفسها، وتضمن استقلاليتها الاقتصادية وقدرتها على المساهمة الفاعلة في الحياة العامة، وأخيرًا ضمان حيازتها للموارد وقدرتها على التصرف بها.
سنحاول، في ما يلي، الإحاطة بالظروف اللصيقة بالمرأة الجنوبية، والتي يمكن إجمالها بالمضاعفات الناجمة عن حقبة الاضطرابات والنزاعات المزمنة، وبتدني مؤشرات التنمية البشرية والعدالة الجندرية، وبوسائل المعيشة المرتبطة بالنشاطات الزراعية الريفية.
يقود التوصيف الدقيق لجذور المشكلة إلى التالي:

– أنتج طول النزاع في جنوب لبنان أعدادًا غفيرة من الحالات الاجتماعية الحرجة (أرامل، أيتام، معوقين، محكومين، فارين، أسرى سابقين، الخ)، وجميعهم يحتاجون إلى رعاية صحية واجتماعية مستديمة،

– أُقحمت النساء في العديد من أشكال العمل الظاهر والمستتر. ونجم عنه مسؤوليات متنامية دون أن يتصاحب ذلك مع إحداث تغيير يُذكر في اشتراكها في اتخاذ القرارات،
– لم يحظ عمل النساء (داخل المنزل أو خارجه) بالتقدير والقيمة التي يستحقها،
– لم يؤد تعاطي المرأة الأعمال الصعبة إلى تحسن في مستوى الدخل أو إلى الاستقلالية،
– تلعب العادات والتقاليد دورًا كبيرًا في الإبقاء على الوضع التبعي للمرأة وتحد من قدرتها على حيازة الموارد والتصرف بها (الأراضي، القروض، المعلومات، الوسائل الزراعية..)
– المعروف أن النساء أكثر عرضةً للفقر والاستغلال، خصوصًا على مستوى النساء المعيلات (ونسبتهن إلى ارتفاع مع فقدان رب المنزل بسبب النزاع أو الهجرة)
– تواجه النساء العائدات إلى الأرياف ظروفًا قاسية في سعيهن للمحافظة على عائلاتهن بغياب وسائل العيش الضرورية،
– لا يزال اشتراك النساء في شؤون الحياة العامة محدودًا جدًا،
– الإمكانات والخدمات القائمة والموجهة نحو المرأة تقليدية جدًّا. ولا تعير البرامج الحالية –على ندرتها- انتباهًا يُذكر لضرورة الارتقاء بوضع المرأة ومساهمتها في الحياة العامة (برامج مهنية غير ملائمة، تدخلاّت رمزية وقلّة متابعة، الاكتفاء بإرضاء الحاجات الآنية دون ربطها بالبعد الإستراتيجي)

خصوصية الجنوب تركت بصماتها على وضع المرأة فيه، ولو أخذنا شريحة الشباب منهن، فسنلاحظ أن المعضلة لن تقل تعقيدًا. وإذا كان معروفًا أن المرأة غالبًا ما كانت الضحية الأكبر في ظروف النزاعات، فمن يليها في حالة الجنوب هم الشباب. وأهم ما يلاحظه المراقب الآتي:
– بدأت الاعتداءات الإسرائيلية على قرى الجنوب أوائل السبعينيات، وبحساب بسيط نستتنج أن كل من يقلّ عمره اليوم عن 50 عاماً قضى كلّ عمره إما مهجرا أو قلقاً أو مصاباً أو محارباً، هذا عدا عن قوافل الشهداء الذين قضوا وهم في ريعان الشباب؛
– والشباب الذين لم يتأثروا في أرزاقهم أو أجسادهم أو أجساد أقاربهم، انعكس عليهم الوضع في مستوياتهم العلمية. فمن السمات الغالبة ضعف التحصيل العلمي أو المكتسبات التعلمية (تفكير علمي، مهارات، لغات، إلخ) حتى عند أولئك الذين أتيح لهم الحصول على شهادات علمية عالية؛
– يُبعَد الكثير من الشباب عن النظام المدرسي في سن مبكرة (30% من شباب لبنان بين 15 و19 سنة خارج المدرسة)، ويطال الفقر أكثر من نصفهم. في حين أن التدريب المهني نادرًا ما يتناسب مع حاجات سوق العمل؛
– الضريبة المنطقية المضافة على ما ذكر، هي ندرة فرص العمل (البطالة بين الشباب تناهز الـ 25%) في ظل الوضع الاقتصادي الراهن. الأمر الذي يدفع بالشباب إلى الهجرة، والتي تضرب أرقامًا قياسية عامًا بعد عام؛
– وعمالة الأطفال هي أيضًا من الظواهر بالغة الخطورة، بل هي أخطر ظواهر الفقر. ونلاحظها في الجنوب في الشوارع والكراجات والمحلات والمزارع، تحديدًا عمالة التبغ، والتي تعتمد أساسًا على الأطفال والشباب، بل الشابات، وتطيح بمعظم فرص التعلم والتمكين.

المضاعفات
يتبيّن ممّا سبق خصوصية المرأة الجنوبية وخصوصية الشباب الجنوبي لناحية الظروف التي مرّوا بها، عدا الاعتبارات الموروثة والتقاليد وتعقيدات المرحلة الراهنة. وينجم عن هذا الوضع العديد من المضاعفات:
– صعوبة وصول المرأة للموارد والتصرف بها، يؤدي إلى مستويات تربية وصحة متدنية،
– التعرّض المتزايد للعنف الجسدي والنفسي ضد النساء وغيره من أشكال الاستغلال،
– التضييق على الفرص المتاحة أمام المرأة،
– تنامي نسبة الأمية بين النساء
– مستوى معيشة متدن للعائلة
– نزوح مستمر نحو المدن، وحرمان المجتمع من شبابه الباحث عن فرص عمل في الخارج،
– خلل عميق وبعيد المدى يطال التركيبة الاجتماعية والأسرية، حيث إن التهجير والهجرة طال الشباب بنسبة أعلى من الشابات، وأضعف فرص الزواج وتكوين الأسرة، فوجدنا أنفسنا أمام ظاهرة العزوبية المتأخرة والتي تسجل أرقامًا قياسية عند النساء.
– تفاقم الآفات الاجتماعية الجانبية مثل الجريمة والمخدرات.

نستنتج باختصار أن استمرار الوضع على ما هو عليه سيؤدي بنا إلى نتيجيتين كارثيتين:
– الإمعان في تهميش المرأة ينتج عنه ليس فقط إعادة إنتاج التخلّف، بل أيضًا مسيرة عرجاء (مجتمع يعمل بنصف طاقته فقط) في عالم سريع الحركة والتغيّر،
– استدامة الفقر والتخلف كنتيجة لإهمال الشباب نتيجة إفراغ البلد من سواعده المنتجة (يتكفل مجتمعنا بتنشئة الأطفال وتعليمهم شباباً، فيهاجرون سحابة عمرهم المنتج، ويعودون إلينا شيوخًا أو في الأكفان)، وكأن وظيفة لبنان في عصر العولمة أن يصدّر شبابه ويستورد العمالة الرخيصة وضعيفة التأهيل لأداء الأشغال المصنفة ثقافيًّا “وضيعة”، أو للخدمة في المنازل ولتربية الأطفال.