عن الإمام السيد موسى الصدر

الإمام الرؤيوي: مشروع الإمام الصدر

في قمّة الهرم, هناك الجوهر العالمي أو القيمة التي أضافها الإمام الصدر على التجربة الإنسانية. بيت القصيد هو في منهجيته في أن يتولى الناس تحديد حاجاتهم الحياتية ويتمكنوا من حلّها بأنفسهم. والناس بالنسبة إليه هم المرأة والرجل، وهذه إضافة جوهرية في الأرياف والحواضر الشرقية. ينجم عن هذه المشاركة حالة من الإحساس بالرضى والثقة بالنفس، وهي الشرط الضروري للثقة بالآخرين تمهيدًا للعمل معهم، والتلذذ بإنجاز الاقتراب ممّا هو أفضل. يتيح هذا التقدّم، بل يعزّز قيَم المشاركة والحوار والاعتراف بالآخر، بما يفضي إلى تعزيز فرص السلم والتعاون. ويصح هذا على مستوى العائلة والمشروع المحلي، كما على مستوى العلاقات بين الطوائف والدول والشعوب. وخيار الإمام الصدر أن يكون لبنان هو المصداق على صحّة أطروحته في تحقيق العدالة الاقتصداية والاجتماعية والسياسية، هو الحلم المستدام التحقق.

1- في المنهج والقيم

علينا أن تتذكر دومًا كيف أخفقت السياسات المركزية في توزيع الثروات والحرمان بعدالة بين الطوائف. ويظن البعض أن الإمام الصدر كان عراب استنهاض الشيعة في لبنان والواقع أنه عرّاب استنهاض المحرومين لأية طائفة انتموا. فقد أنتج النظام السياسي التمييزي العشائري واقع غلبة الحرمان على أكثرية الشيعة، وعليه كان من الطبيعي أن يكون جمهور الإمام الصدر شيعيًّا بأكثريته.
تتركز رؤية الإمام الصدر على تعزيز الكرامة الإنسانية وخدمة الإنسان تقربًا إلى الله تعالى، لهذا بذل جهودًا جبارة للتقريب بين اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم ومعتقداتهم؛ كما كانت مسيرته زاخرة بمواقف الدفاع عن الضعفاء، ولأجلهم أنشأ عشرات المعاهد والهيئات والجمعيات. غافله الزمن في أوْج انطلاقته، فأجهضت بعض المشاريع، وترنحت أخرى، بينما آل البعض الآخر إلى هذه المرجعيّة أو تلك. وبقي الإرث المنهجي ومنظومة القيم التي تبنّاها موضع اهتمام وتمحيص لا سيّما أنّها بمجملها لا تزال متصلة بقضايانا المعاصرة.
من المفاهيم التنموية الدارجة: التمكين، المشاركة، الجندر، توسيع الخيارات، إلخ. وإذا كانت هذه الكلمات لم تتواتر بحرفيتها على لسان الإمام الصدر، إلاّ أن مدلولاتها ومضامينها كانت كامنة في المفردات البسيطة والمباشرة والشفافة التي منحت خطابه الزخم والفعالية. ماذا يقول؟ هل اقترح علينا مناهج بحثية ونماذج تطبيقية تفضي إلى معالجة القضايا التنموية وإرساء العدالة؟
في ما يلي مرتكزات منهجه في التغيير الاجتماعي:

1- يتحرّك الإنسان بطبيعته نحو الكمال: بعض الناس يخنعون، البعض الثاني يهاجر طلباً لعلم أو معاش أو ضمان، والبعض الثالث يرفض الواقع ويريد التغيير وتعوزه الحيلة فيستعير وسيلة، والبعض الرابع أسماه الإمام الصدر بالعالم الرابع أو الثورة المؤمنة. فمن مبادراته الواثقة أنّه دعا رجال الدين إلى مغادرة أبراجهم الوعظية، والالتحاق بالناس في أحوالهم وسبل معاشهم. هو حوّل الجامع إلى جامعة ليصبح من حق الكل الانتماء إليها على قاعدة السعي وراء المعرفة، إذ على الإنسان المؤمن أن يتحرك. وعن الرسول عليه الصلاة والسلام، ينقل  “ولو أن عبدًا مؤمنًا قامت قيامته وبيده غرسة، لغرسها قبل أن يموت”.

2- المجتمع= إنسان + عمل متبادل. من أبسط التعاريف للمجتمع، وقد أتى به الإمام الصدر، وركزّ على ما هو أهم: “يا فاطمة! اعملي لنفسك، فإني لا أغني عنك من الله شيئًا”. وإذا كانت فاطمة غير جديرة بشفاعة الرسول يوم القيامة إذا لم تكن متسلحة بأعمالها، فمن عساه جدير؟ والسؤال يطرحه الإمام الصدر، ثمّ يجيب عليه مستعينًا بالآية الكريمة {وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى، وإن سعيه سوف يرى} سورة النجم، 39-40. ويسهب الإمام الصدر في تبيان السبيل “إلى إصلاح أوضاعنا”مركزا على أن الممارسة العملية هي المقياس، وعلى ضرورة نبذ الاتكالية، والبدء بالنفس لنكون قدوة للآخرين، وهو يشبّه الخير بالنور للدلالة على قابليته للانتشار والاقتداء به. ويستخلص بأن الدين هو الصلاح في العمل واللسان والقلب والسيرة، فلا مناص من تعميق الدين وربطه بعملية التغيير سيّما وأن الله أنزل الأديان لصناعة العالم المتكامل المتآزر.

3- يستعير الكون المنظم العادل ليستدل على إمكانية إحقاق الحق والعدالة، ويصنّف الإمام الصدر طرق التربية بأربع: التربية المتجهة مباشرة إلى الفعل، وتلك المتجهة إلى ما وراء الفعل أي إلى القناعة، وتتجلّى الطريقة الثالثة في خلق المناخات المؤاتية enabling context)) لجو العدل والاستقامة، وأخيرًا الرؤية الكونية وضرورة تمثلها حيث الكون مبني على الحق والعدل. {والسماء رفعها ووضع الميزان، الا تطغوا في الميزان} سورة الرحمن، 1-2.

4- ليست الوسيلة بأقل أهمية من الهدف، فالمناقبية والسلوك القويم من أساسيات التغيير الناجح. وإذا كان جيداً أن نصل إلى نتيجة مُرضية بفعل عمليةٍ ما، فمن المهم أن نحقق هذه النتيجة المرضية كلّ مرّة. ولا نستطيع ضمان ذلك إلاّ من خلال تعلّم الطريقة السليمة الآيلة إلى النتيجة السليمة.

5- وفي عرضه لوسيلة التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يرفع معاناة المحرومين في لبنان، يركز الإمام الصدر على الجذر الأساسي لمبدأ التغيير، وهو رفضه التغيير بالعنف. آمن بلبنان وطنًا نهائيًا لجميع أبنائه، بل وجد فيه رسالة حضارية يجب التمسك بها. وأحبّ أن يقدّمه كنموذج. ليس نموذجًا للإطفائي بل نموذجًا للبشرية السمحة حيث معدنها ونباتها وهواؤها مواد غير قابلة للاشتعال.  بل هو يؤكد “عدم جواز مسك النار بالأصابع ما دامت الوسائل الديمقراطية متوفرة مبدئيًا، وتنظيم استعمالها ممكنًا ومرجوًا. وفي سياق آخر يذكّر بهوية الوطن الذي تؤمن به الطائفة الإسلامية الشيعية، لبنان الواحد الموحد النهائي السيد المستقل، العربي المنفتح على العالم بأسره/ الملتزم بقضية الإنسان لأنها من صلب رسالته الحضارية. ولبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وعلى مبدأ فصل السلطات، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات.

6- وظّف الإمام الصدر الأسس المنهجية العلمية في خدمة العمل الاجتماعي، والممكن تلخيصها بالتالي:

– مسح الواقع الاجتماعي- الاقتصادي وفهمه ( إحصاءات، بحوث..إلخ)،
– النظرة الإستراتيجية وإدراك مضاعفات الحرمان التي تطال المحروم كما المقتدر، فيبتلي المجتمع بأكمله  بالتوترات الاجتماعية والحروب الأهلية،
– التركيز على أهمية التنظيم المؤسسي كشرط أساسي لنجاح كل عمل،
– الحرص على الإطار التكاملي للتغيير الاجتماعي، تفادياً لأي شرخ يبدأ بالجزأ فيصيب الكلّ،
– وأولاً وأخيرًا، إيجاد الظروف والمناخات التي تُمكّن المرأة من المساهمة في النهوض الاجتماعي والثقافي.

2- في بناء المؤسسات

جال الإمام الصدر لبنان طولاً وعرضًا وحمَلَ هموم الوطن والمنطقة إلى معظم العواصم. فحالة الاستنهاض الاجتماعي التي حمل لواءها والمراكز والهيئات والتنظيمات التي أطلقها، قد أحدثت انعطافًا اجتماعيًا وتاريخيًا ما تزال تداعياته وتجلياته تتردد وتتفاعل يومًا بعد يوم. لقد كانت أحزمة البؤس آخذة في محاصرة المدن في ستينيات البحبوحة والرخاء عندما ظهر الإمام الصدر في لبنان، وكانت بذور الحرب الأهلية قد وجدَت الأرض الخصبة للنمو، وأخذت تترعرع بفعل عوامل وتناقضات إقليمية وعالمية متنوّعة. وتلك الأحزمة بالتحديد، كانت ساحة العمل السياسي والاجتماعي والتنموي للإمام الصدر إذ إنّه أدرك وحذر مبكّرا من مخاطر ما يختمر بداخلها من كوامن التفجّر. وهذا ما أثبتته السنوات اللاحقة بما حملته من مآسٍ ونكبات. وقد كان سبّاقًا إلى التحذير من عواقب ذلك على الناس والوطن والحضارة. والأحداث الجسام التي تعصف بنا حاليًّا تثبت أن تغييب الإمام الصدر كان مطلبًا لدى العابثين بمصير الناس والوطن. ما لبثوا أن تخلصوا من آخرين قبل أن يشتد إعصارهم ويجتاح الأخضر واليابس.

في ما يلي محطات مختارة من تلك المسيرة، وقد ثبُت لاحقًا أنّ كلا منها كان بمثابة المشعل أو المنارة للساعين إلى التغيير الاجتماعي:

• عام 1960، كانت البدايات في مدينة صور وضواحيها عبر برامج الدعم والمساعدة للمحتاجين وإطلاق برامج محو الأمية وإنشاء المؤسسات العامة واستنهاض دور المرأة وتمكينها من خلال تعليمها فنون الخياطة والتطريز والتربية المنزلية وإقامة دورات في الإسعاف الأولي؛

• عام 1964، باشر الإمام الصدر التعاون مع أعضاء الندوة اللبنانية، كباكورة المساعي للحوار الإسلامي- المسيحي؛

• عام 1967، أقر مجلس النواب اللبناني قانون إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى استناداً إلى الأسباب الموجبة التي كان قد بيّنها الإمام الصدر في العام السابق؛

• عام 1969، بدأت تتبلور الأبعاد الإنمائية في مشروعات الإمام الصدر الخيرية، أسس روضة الأطفال وألحقها بمدرسة الهدى كما حوّل دورات الإسعاف الأولي إلى مدرسة فنية عالية للتمريض ما زالت قائمة حتى اليوم؛

• عام 1970، أسس هيئة نصرة الجنوب، ودعا إلى إضراب سلمي وطني نشأ بنتيجته مجلس الجنوب لتنمية الجنوب ورفع الحرمان عن لبنان؛

• عام 1976، ساهم في إعداد الوثيقة الدستورية، وبذل جهودًا مكثفة لإنهاء الحرب الأهلية كانت نتيجتها انعقاد مؤتمر الرياض وقمة القاهرة؛

• عام 1977، تقدّم بمقترحاته حول الإصلاحات السياسية والاجتماعية في لبنان؛

• في 31 آب 1978، انقطع الاتصال بالإمام الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والأستاذ عباس بدر الدين، وكانوا في زيارة ليبيا استجابة لدعوة رسمية من حاكمها.

يفيدنا استذكار تلك المحطات في استحضار الإطار التاريخي والجغرافي الذي تحرّك ضمنه الإمام الصدر في تلك المرحلة. إلى ذلك، لا بدّ من استدعاء متفرقات من النقاط التي أضاءها، والتي تشكلّت منها معالم الطريق الذي نحن سالكون. وللإمام الصدر العديد من المواقف المشهودة والتي راحت مضرب مثل، أو هي مبعث حنين وتحسّر بعد أن افتقدته الساحة اللبنانية. لقد تحوّل معه مسجد الصفا إلى ساحة جهاد وصرخة رفض للتقاتل الأهلي، وتحوّل مكان الاعتصام إلى قبلة استقطاب هرع إليها الآلاف من المسؤولين والروحانيين والمواطنين. ولم يفكّ اعتصامه إلا ليرفع الحصار عن قريتي القاع ودير الأحمر في البقاع. في مكان آخر وزمان آخر، تناهى إليه أن أهالي صور المسلمين يقاطعون بائعًا للمثلجات بسبب انتمائه المذهبي، فما كان من الإمام الصدر إلا أن توّج صلاة الجمعة بمسيرة، تبعه الناس فيها وهم غافلون عمّا هو عازم. أنهى بهم المطاف عند البائع وتناول مما عنده. وقلّده الباقون.

إلى ذلك، أنشأ الإمام الصدر العشرات من المراكز والأنشطة والمعاهد بين عامي 1962 و1978، وشهد  مشروعه تنقلات في المكان والحجم والجهات الراعية والإدارية، دون أن ينعكس ذلك انقطاعًا عن النهج أو الغايات الكليّة، سيّما أن الدروس التي يمكن تعلّمها من تجربته الشخصية في العمل الاجتماعي وفي التنمية البشرية ما تزال الأغنى والأشمل قياساً بالتجارب الفردية الأخرى. من ذاك البرعم الصغير الذي غرسه الإمام الصدر في صور، أسماه بيت الفتاة، وأسند إدارته إلى شقيقته السيدة رباب الصدر، سوف تتفرع الشجرة إلى شبكة متكاملة من البرامج والخدمات والمعاهد.
لقد تبلورت تجربة مؤسسات الإمام الصدر في لبنان من خلال العمل مع أولئك المتروكين على قارعة الكباش الاقتصادي، مع المحرومين. وسرعان مع تداخلت عوامل السياسة والحرب والطائفية ليغدو المشهد أكثر تعقيداً من أن تستطيع مقاربة مبسّطة من توصيفه أو تحريكه. كما اتخذ الحرمان أبعادًا شتى، منها الإقصاء الاجتماعي، ومنها الطغيان السياسي، ومنها الاستباحة البيئية.