كلمة السيّدة رباب الصدر
ما أحوجنا إلى التسامح!
“بوسع المرء أن يعطي للتسامح تعريفات شتَّى، لكن ليس من الصعب الالتقاء حول رؤية الإمام الصدر للتسامح. إنه بالنسبة للإمام مبدأ إنساني في الأساس، وليس مجرد سلوك، إنه منهج حياة، يوجد في كل مكان في حياته، أشبه بمدىً يتسع كلّما اتسعت لديه الرؤية الفكرية والتجربة الإنسانية. وعندما أتكلم عن التسامح في فكر الإمام الصدر تحضرني له صورًا تعكس تسامحه أحبُّ أن أتشاركها معكم:
الصورة الأولى: منذ وصوله إلى لبنان حمل الإمام الصدر على عاتقه رسالة الانفتاح على الآخر، وتقبله وتحسس آلامه، ووجد أن البيئة اللبنانية هي أرضٌ خصبة بتنوع طوائفها وتعدد أطيافها ما يجعلها أهلًا للتجربة الحضارية؛ إلا أن نجاح هذه التجربة مرهونٌ بالتعايش والتسامح بين اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين ويؤكد على ذلك: “عرف لبنان التسامح وتعايش المسلمين والمسيحيين من قديم” بناءً على إيمانه العميق بأن “التسامح واجب ديني قضت به جميع الأديان السماوية” .
وبهذا الإيمان المطلق بقدرة لبنان وأبنائه على التعالي عن الضغائن وأحقاد الماضي، فتح قنوات التواصل مشارِكًا في قداس أقيم في صور عن روح قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرين، متحدثًا عن وثيقة “السلام على الأرض” التي صدرت عن قداسته، شارِحًا لأهمية الدين في توطيد الاستقرار والسلام العالمي بقوله: “نحن في لبنان ما أجدر بنا أن نستفيد من المحبة والتسامح نرفعها بمثابة صلاة وتكريم لروح قداسة البابا” . وعليه، نستنبط تفسيرًا أكثر حيويةً للتسامح لدى الإمام، ألا وهو إعلاء شأن قوة الأُخوة في الوطن الواحد عبر المحبة والتسامح. وعالمنا الآن، يبدو أن أكثر ما يحتاجه هو لغة ترتقي بالإنسان، لغة تُعيد إلى الإنسان إنسانيته، لأن العنف والتعصب والعنصرية طغت في المجتمعات، وفرّقت أفراده. ولهذا، أتى التسامح في خطاب الإمام بمفردات مختلفة تُعنى ببناء رصيد وطني يقرّب ويجمع وينهض بمجتمع قوي.
الصورة الثانية: بعد أن توسعت موجة الأخذ بالثأر في لبنان وشملت الأبرياء قاد الإمام الصدر حملةً ضد هذه العادة ومعتنقيها، وبتاريخ 15 حزيران 1975 عقد مصالحةً بين عائلتين لوضع حدّ لنزيف الدم المُراق معتبِرًا أن “الهدف من الرسالات الإلهية أولًا إشاعة السلام في الأرض، ثم خروج الإنسان من الظلمات الى النور” . ويفسِّر الإمام الصدر معنى هذا الخروج بأنه “الخروج من ظلمات الجهل والفقر والمرض والتخلف والأوساخ والكسل والظلم والتجاوز وكل أنواع الظلام” ، فبِما أن السلام يقوم على صفاء القلب والعقل، ونبذ الشحناء التي من شانها إيلاد الفساد فهذا يعني ارتباط السلام الوثيق بالتسامح. وهو ما يؤدي إلى “نور العلم والرفاه والصحة والتقدم والنظافة والجهد والعدل والمساواة وكل أنواع النور… إذا لاحظنا كل ذلك، نعرف أن الأساس لكل سعي وتقدم في حقول الدين والاجتماع والعلوم، إنما هو تحضير الأرضية، إنما هو في توفير السلام” ، مؤكدًا بأنه “لا خير مع التفرق والخلافات على صعيد المجتمعات” . لذا، يبرز التسامح والتصالح في مفردات الإمام في سبيل توفير مناخ أمن وسلام ووحدة.
الصورة الثالثة: في 28 حزيران 1975 ودِّع الإمام موسى الصدر عائلته، ليلجأ إلى بيت الله لأنّ المتحاربين في لبنان دنّسوا أرض الوطن. اعتصم، صام، صلى، دعا… متّخِذًا من ثقافة اللاعنف وسيلةً لهزّ الضمائر، والتذكير بالوطن أمانة الله على الأرض، ويقول عن اعتصامه: “هذه الخطوة لو كتب الله لها النجاح فلسوف تكون بدء فصل جديد في تاريخ لبنان بعد ما ملَّ المواطن من صوت الرصاص، وأدرك بشاعة العنف المستعمل ضد الأهلين، بدء فصل هو الغلبة على المغالبة والسيطرة باللين على القوة، والعودة إلى الشرف الإنساني والرحمة البشرية” . لم يلجأ إلى العنف المقابل، بل وعى أن موجة الغضب والعصبية ليست هي الحلّ. اعتصم مندفِعًا بتلك القناعة المطلقة بأن أدوات اللاعنف أمضى من سلاح الحرب، وبأن الطاقة الإيمانية لها تأثيرها وتبعاتها عليه وعلى محيطه.
إذًا، هي ثقافة اللاعنف، موقف المقاومة السلمية، بعضٌ من المبادرة البنّاءة التي تؤسس لخطاب ينبذ الخلافات، ويُحِل محلها الرحمة والتعاطف. ويذهب أبعد من ذلك عندما يضع نفسه واللبنانيين أمام “مسؤوليتنا التاريخية الكبرى أمام الوطن، أمام التاريخ وأمام الأجيال أن نعضّ على الجروح وأن نشمّر عن سواعدنا وأن نحفظ وطننا كلٌّ حسب قدرته” .
من هنا، لا يمكن اعتبار التسامح لدى الإمام الصدر هو مجرد لفظ أو قول، بل امتلكت هذه القيمة السامية أبعادًا وآفاقًا واسعة، بحيث أدرك مسبقًا فاعليتها وقدرتها في خلق إرادة حيّة تشدّ من أواصر اللبنانيين: “لبنان بحد ذاته بلد التسامح ومتعدّد الطوائف… يستمدّ من الأزمات التي يواجهها قوة جديدة لتعزيز وجوده” .
هذه الصور الثلاث إن دلّت على شيء فهي تدلّ على أن الإمام كان يتحرك في حياته ونشاطه مدفوعًا بشحنة من التسامح والرحمة والتعاطف. وتجربته الإنسانية في الانفتاح والحوار والتعايش خير دليل على ذلك، وهي مقومات لا تتحقق إذا لم يكن التسامح وتقبل الآخر والتسامي متوفرة.
لا أجد أفضل خاتمة غير قول الإمام الصدر عن التسامح ورؤيته البعيدة لمستقبل مشرق: “نريد أن نعيش معًا كمواطنين مسلمين ومسيحيين مهما حصل في الماضي القريب والبعيد ومهما كان من الدماء والدمار. إن ما حصل لم يكن من عملنا ولا نتيجة لإرادتنا. إننا نتبرأ منه ونصر على التعايش معًا في وطن واحد نعيش أمانينا وقيمنا ورسالتنا الحضارية.”
وشكرًا.
رباب الصدر
كلمة أُلقيت في مؤتمر “الأديان في خدمة الإنسان”
باريس في 15/10/2016